فصل: (سورة الممتحنة: آية 12)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الممتحنة: الآيات 10- 11]

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)}
ومن هذا الوجه أحمد والبزار وأبو داود وأبو يعلى والطبري والطبراني وابن أبى حاتم وغيرهم. وحديث أسماء في الصحيحين عن عروة عنها بغير هذا السياق.
{إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ} سماهنّ مؤمنات لتصديقهنّ بألسنتهنّ ونطقهنّ بكلمة الشهادة ولم يظهر منهنّ ما ينافي ذلك. أو لأنهنّ مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان {فَامْتَحِنُوهُنَّ} فابتلوهن بالحلف والنظر في الأمارات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهن، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول للممتحنة: «باللّه الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج، باللّه ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، باللّه ما خرجت التماس دنيا، باللّه ما خرجت إلا حبا للّه ولرسوله».
{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ} منكم لأنكم لا تكسبون فيه علما تطمئن معه نفوسكم، وإن استحلفتموهن ورزتم أحوالهن، وعند اللّه حقيقة العلم به {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ} العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} فلا تردّوهن إلى أزواجهن المشركين، لأنه لأحل بين المؤمنة والمشرك {وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا} وأعطوا أزواجهنّ مثل ما دفعوا إليهنّ من المهور، وذلك أن صلح الحديبية كان على أن من أتاكم من أهل مكة ردّ إليهم، ومن أتى منكم مكة لم يردّ إليكم، وكتبوا بذلك كتابا وختموه، فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية، فأقبل زوجها مسافر المخزومي. وقيل صيفي بن الراهب فقال: يا محمد، اردد علىّ امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف، فنزلت بيانا لأن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء. وعن الضحاك: كان بين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهد: أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن تردّ على زوجها الذي أنفق عليها، وللنبي صلى الله عليه وسلم من الشرط مثل ذلك.
وعن قتادة: ثم نسخ هذا الحكم وهذا العهد براءة، فاستحلفها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق وتزوّجها عمر.
فإن قلت: كيف سمى الظنّ علما في قوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ}؟
قلت: إيذانا بأن الظن الغالب وما يفضى إليه الاجتهاد والقياس جار مجرى العلم، وأن صاحبه غير داخل في قوله: {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.
فإن قلت: فما فائدة قوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ} وذلك معلوم لا شبهة فيه؟
قلت: فائدته بيان أن لا سبيل لكم إلى ما تطمئن به النفس ويثلج به الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهن، فإنّ ذلك مما استأثر به علام الغيوب، وأن ما يؤدى إليه الامتحان من العلم كاف في ذلك، وأن تكليفكم لا يعدوه، ثم ن في عنهم الجناح في تزوّج هؤلاء المهاجرات إذا آتوهنّ أجورهنّ أي مهورهنّ، لأن المهر أجر البضع، ولا يخلو إما أن يراد بها ما كان يدفع إليهنّ ليدفعنه إلى أزواجهنّ فيشترط في إباحة تزوجهنّ تقديم أدائه، وإما أن يراد أن ذلك إذا دفع إليهنّ على سبيل القرض ثم تزوجن على ذلك لم يكن به بأس، وإما أن يبين لهم أن ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر وأنه لابد من إصداق، وبه احتج أبو حنيفة على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلما أو بذمة وبقي الآخر حربيا: وقعت الفرقة، ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها إلا أن تكون حاملا {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ} والعصمة ما يعتصم به من عقد وسبب، يعنى: إياكم وإياهنّ، ولا تكن بينكم وبينهنّ عصمة ولا علقة زوجية.
قال ابن عباس: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدنّ بها من نسائه، لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه. وعن النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر.
وعن مجاهد: أمرهم بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن.
{وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ} من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار {وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا} من مهور نسائهم المهاجرات. وقرئ: {ولا تمسكوا} بالتخفيف. {ولا تمسكوا} بالتثقيل. {ولا تمسكوا}، أي: ولا تتمسكوا {ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ} يعنى جميع ما ذكر في هذه الآية: {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} كلام مستأنف. أو حال من حكم اللّه على حذف الضمير، أي: يحكمه اللّه. أو جعل الحكم حاكما على المبالغة. روى أنها لما نزلت هذه الآية أدى المؤمنون ما أمروا به من أداء مهور المهاجرات إلى أزواجهنّ المشركين، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين، فنزل قوله: {وَإِنْ فاتَكُمْ} وإن سبقكم وانفلت منكم {شَيْءٌ من أزواجكم}: أحد منهن إلى الكفار، وهو في قراءة ابن مسعود: {أحد}. فإن قلت: هل لإيقاع شيء في هذا الموقع فائدة؟ قلت: نعم، الفائدة فيه: أن لا يغادر شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر، غير معوض منه تغليظا في هذا الحكم وتشديدا فيه {فَعاقَبْتُمْ} من العقبة وهي التوبة: شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره. ومعناه: فجاءت عقبتكم من أداء المهر، فآتوا من فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة، ولا تؤتوه زوجها الكافر، وهكذا عن الزهري: يعطى من صداق من لحق بهم. وقرئ: {فأعقبتم}. {فعقبتم} بالتشديد. {فعقبتم} بالتخفيف، بفتح القاف وكسرها، فمعنى {أعقبتم}: دخلتم في العقبة، و{عقبتم}: من عقبه إذا قفاه، لأنّ كل واحد من المتعاقبين يق في صاحبه، وكذلك {عقبتم} بالتخفيف، يقال: عقبه يعقبه. وعقبتم نحو تبعتم.
وقال الزجاج: فعاقبتم فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم، والذي ذهبت زوجته كان يعطى من الغنيمة المهر، وفسر غيرها من القراءات فكانت العقبى لكم، أي: فكانت الغلبة لكم حتى غنمتم.
وقيل: جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعة عن الإسلام ست نسوة:
أم الحكم بنت أبى سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري، وفاطمة بنت أبى أمية كانت تحت عمر بن الخطاب وهي أخت أم سلمة، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى بن نصلة وزوجها عمرو بن عبدودّ، وهند بنت أبى جهل كانت تحت هشام بن العاص. وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر، فأعطاهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة.

.[سورة الممتحنة: آية 12]

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}
{وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} وقرئ: {يقتلن}، بالتشديد، يريد: وأد البنات {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدى منك.
كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذبا، لأنّ بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} فيما تأمرهن به من المحسنات وتنهاهنّ عنه من المقبحات. وقيل: كل ما وافق طاعة اللّه فهو معروف.
فإن قلت: لو اقتصر على قوله: {وَلا يَعْصِينَكَ} فقد علم أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بمعروف؟ قلت: نبه بذلك على أنّ طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بغاية التوقي والاجتناب. وروى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال: أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه، وهند بنت عتبة امرأة أبى سفيان متقنعة متنكرة خوفا من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يعرفها فقال عليه الصلاة والسلام: «أبايعكن على أن لا تشركن باللّه شيئا» فرفعت هند رأسها وقالت: واللّه لقد عبدنا الأصنام وإنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال تبايع الرجال على الإسلام والجهاد، فقال عليه الصلاة والسلام: و«لا يسرقن» فقالت: إنّ أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصبت من ماله هنات، فما أدرى، أتحل لي أم لا. فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال، فضحك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها: «وإنّك لهند بنت عتبة»؟ قالت: نعم فاعف عما سلف يا نبي اللّه عفا اللّه عنك، فقال: «ولا يزنين»، فقالت: أوتزني الحرة؟ وفي رواية: ما زنت منهن امرأة قط، فقال عليه الصلاة والسلام «ولا يقتلن أولادهن» فقالت: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا فأنتم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر، فضحك عمر حتى استلقى، وتبسم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: «ولا يأتين ببهتان» فقالت: واللّه إنّ البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: «ولا يعصينك في معروف» فقالت: واللّه ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء. وقيل في كيفية المبايعة: دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده، ثم غمسن أيديهن. وقيل صافحهن وكان على يده ثوب قطري. وقيل كان عمر يصافحهن عنه.

.[سورة الممتحنة: آية 13]

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)}
روى أنّ بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم. فقيل لهم {لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا} مغضوبا عليهم {قَدْ يَئِسُوا} من أن يكون لهم حظ في الآخرة لعنادهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون أنه الرسول المنعوت في التوراة {كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ} من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء. وقيل {مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ} بيان للكفار، أي: كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة، لأنهم تبينوا قبح حالهم وسوء منقلبهم.
عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة». اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}
سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرد التوجه إلى مكة أظهر أنه يريد خيبر، وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إليهم وأرسل مع امرأة ذكر أنها سارة مولاة لبني عبد المطلب، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأنفذ عليًا وأبا مرثد، وقيل عمر بن الخطاب، وقيل الزبير رضي الله عنهم، وقال لهما «اذهبا إلى روضة خاخ فإنكم ستلقون بها امرأة معها كتاب فخذاه وعودا» فأتيا الموضع فوجداها والكتاب معها، فأخذاه وعادا، فإذا هو كتاب حاطب فقال عمر: ائذن لي يا رسول الله أضرب عنقه فقد خان الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم قد شهد بدرًا، فقالوا: بلى ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فلعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم إني بما تعملون خبير». ففاضت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب «ما حملك على ما صنعت؟» فقال: يا رسول الله كنت امرأ ملصقًا من قريش وكان لي بها مال فكتبت إليهم بذلك، والله يا رسول الله إني لمؤمن بالله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدق حاطب فلا تقولوا له إلا خيرًا». فنزلت هذه الآية والتي بعدها.
وفي قوله تعالى: {تسرون إليهم بالمودة} وجهان:
أحدهما: تعلمونهم سرًا أن بينكم وبينهم مودة.
الثاني: تعلمونهم سرًا بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم بمودة بينكم وبينهم.
{قد كانت لكم أسوة حسنة} ذكر الكلبي والفراء أنه أراد حاطب بن أبي بلتعة، وفيها وجهان:
أحدهما: سنة حسنة، قاله الكلبي.
الثاني: عبرة حسنة، قاله ابن قتيبة.
{في إبراهيم والذين معه} من المؤمنين.
{إذ قالوا لقومهم} يعني من الكفار.
{إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله} فتبرؤوا منهم فهلا تبرأت أنت يا حاطب من كفار أهل مكة ولم تفعل ما فعلته من مكاتبتهم وإعلامهم.
ثم قال: {كفرنا بكم} يحتمل وجهين:
أحدهما: كفرنا بما آمنتم به من الأوثان.
الثاني: بأفعالكم وكذبنا بها.
{وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك...} فيه وجهان:
أحدهما: تأسوا بإبراهيم في فعله واقتدوا به إلا في الاستغفار لأبيه فلا تقتدوا به فيه، قاله قتادة.
الثاني: معناه إلا إبراهيم فإنه استثنى أباه من قومه في الاستغفار له، حكاه الكلبي.
{ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا} فيه تأويلان:
أحدهما: معناه لا تسلطهم علينا فيفتنونا، قاله ابن عباس.
الثاني: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فنصير فتنة لهم فيقولوا لو كانوا على حق ما عذبوا، قاله مجاهد، وهذا من دعاء إبراهيم عليه السلام.
{عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة} فيهم قولان:
أحدهما: أهل مكة حين أسلموا عام الفتح فكانت هي المودة التي صارت بينهم وبين المسلمين، قاله ابن زيد.
الثاني: أنه إسلام أبي سفيان.
وفي مودته التي صارت منه قولان:
أحدهما: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان فكانت هذه مودة بينه وبين أبي سفيان، قاله مقاتل.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان على بعض اليمن فلما قبض رسول الله أقبل فلقي ذا الخمار مرتدًا، فقاتله فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين، فكانت هذه المودة، قاله الزهيري.
{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} الآية. فيهم أربعة أوجه:
أحدها: أن هذا في أول الأمر عند موادعة المشركين، ثم نسخ بالقتال، قاله ابن زيد.
الثاني: أنهم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف كان لهم عهد فأمر الله أن يبروهم بالوفاء، قاله مقاتل.
الثالث: أنهم النساء والصبيان لأنهم ممن لم يقاتل، فأذن الله تعالى ببرهم، حكاه بعض المفسرين.
الرابع: ما رواه عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن أبا بكر رضي الله عنه طلق امرأته قتيلة في الجاهلية وهي أم أسماء بنت أبي بكر، فقدمت عليهم في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطًا وأشياء، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأنزل الله هذه الآية.
{وتقسطوا إليهم} فيه وجهان:
أحدهما: يعني وتعدلوا فيهم، قاله ابن حبان فلا تغلوا في مقاربتهم، ولا تسرفوا في مباعدتهم.
الثاني: معناه أن تعطوهم قسطًا من أموالكم، حكاه ابن عيسى.
ويحتمل ثالثًا: أنه الإنفاق على من وجبت نفقته منهم، ولا يكون اختلاف الدين مانعًا من استحقاقها.
{يأيها الذين ءامنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن} لأنه يعلم بالامتحان ظاهر إيمانهن والله يعلم باطن إيمانهن، ليكون الحكم عليهن معتبرًا بالظاهر وإن كان معتبرًا بالظاهر والباطن.
والسبب في نزوله هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم هادن قريشًا عام الحديبية فقالت قريش على أن ترد علينا من جاءك منا، ونرد عليك من جاءنا منك، فقال على أن أرد عليكم من جاءنا منكم ولا تردوا علينا من جاءكم منا ممن اختار الكفر على الإيمان، فقعد الهدنة بينه وبينهم على هذا إلى أن جاءت منهم امرأة مسلمة وجاءوا في طلبها، واختلف فيها على أربعة أقاويل:
أحدها: أنها أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الدحداحة ففرت منه وهو يومئذ كافر، فتزوجها سهل بن حنيف فولدت له عبد الله، قاله يزيد بن أبي حبيب.
الثاني: أنها سعيدة زوج صيفي بن الراهب مشرك من أهل مكة، قاله مقاتل.
الثالث: أنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهذا قول كثير من أهل العلم.
الرابع: أنها سبيعة بنت الحارث الأسلمية جاءت مسلمة بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الهدنة في الحديبية، فجاء زوجها واسمه مسافر وهو من قومها في طلبها، فقال يا محمد شرطت لنا رد النساء، وطين الكتاب لم يجف، وهذه امرأتي فارددها عليّ، حكاه الكلبي.
فلما طلب المشركون رد من أسلم من النساء منع الله من ردهن بعد امتحان إيمانهن بقوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عقد الهدنة لفظًا أو عمومًا:
فقالت طائفة منهم قد كان شرط ردهن في عقد الهدنة لفظًا صريحًا، فنسخ الله ردهن من العقد ومنع منه، وأبقاه في الرجال على ما كان، وهذا يدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد برأيه في الأحكام ولكن لا يقره الله تعالى على خطأ.
وقالت طائفة من أهل العلم: لم يشترط ردهن في العقد لفظًا وإنما أطلق العقد في رد من أسلم، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال، فبين الله خروجهن عن العموم، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين:
أحدهما: أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم.
الثاني: أنهن أرأف قلوبًا وأسرع تقلبًا منهم.
فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم، وقد كانت من أرادت منهن إضرار زوجها قالت سأهاجر إلى محمد فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامتحانهن.
واختلف فيما كان يمتحنهن به على ثلاثة أقاويل:
أحدها: ما رواه ابن عباس أنه كان يمتحنها بأن تحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا التماس دينا ولا عشقًا لرجل منا، وما خرجت إلا حبًا لله ولرسوله.
والثاني: بأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، قاله عطية العوفي.
الثالث: بما بينه الله في السورة من قوله تعالى: {يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات} فهذا معنى قوله: {فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن} يعني بما في قلوبهن بعد امتحانهن.
{فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هنّ حل لهم ولا هم يحلون لهن} يعني أن المؤمنات محرمات على المشركين من عبدة الأوثان، والمرتدات محرمات على المسلمين.
ثم قال تعالى: {وءاتوهم ما أنفقوا} يعني بما أنفقوا مهور من أسلم منهن إذا سأل ذلك أزواجهن، وفي دفع ذلك إلى أهلهن من غير أزواجهن قولان:
ثم قال تعالى: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن} يعني المؤمنات اللاتي أسلمن غير أزواج مشركين، أباح الله نكاحهن للمسلمين إذا انقضت عدتهن أو كن غير مدخول بهن.
{إذا ءاتيتموهن أجورهن} يعني مهورهن.
{ولا تمسكوا بعصم الكوافر} فيه وجهان:
أحدهما: أن العصمة الجمال قاله ابن قتيبة.
الثاني: العقد، قاله الكلبي.
فإذا أسلم الكافر عن وثنية لم يمسك بعصمتها ولم يقم نكاحها رغبة فيها أو في قومها، فإن الله قد حرم نكاحها عليه والمقام عليها ما لم تسلم في عدتها.
فروى موسى بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه أنه قال: لما نزلت هذه الآية طلقت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وطلق عمر بن الخطاب قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها بعده معاوية بن سفيان في الشرك، وطلق أم كلثوم بنت أبي جرول الخزاعية أم عبد الله بن عمر فتزوجها بعده خالد ابن سعيد بن العاص في الإسلام.
{واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} يعني أن للمسلم إذا ارتدت زوجته إلى المشركين من ذوي العهد المذكور أن يرجع عليه بمهر زوجته كما ذكرنا وأن للمشرك أن يرجع بمهر زوجته إذا أسلمت فإن لم يكن بيننا وبينهم عهد شرط فيه الرد فلا يرجع.
ولا يجوز لمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأئمة أن يشرط في عقد الهدنة رد من أسلم لأن الرسول كان على وعد من الله بفتح بلادهم ودخولهم في الإسلام طوعًا وكرهًا فجاز له ما لم يجز لغيره.
{وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار} الآية. والمعنى أن من فاتته زوجته بارتدادها إلى أهل العهد المذكور ولم يصل إلى مهرها منهم ثم غنمهم المسلمون ردوا عليه مهرها.
وفي المال الذي يرد منه هذا المهر ثلاثة أقاويل:
أحدها: من أموال غنائمهم لاستحقاقها عليهم، قاله ابن عباس.
الثاني: من مال الفيء، قاله الزهري.
الثالث: من صداق من أسلمن منهن عن زوج كافر، وهو مروي عن الزهري أيضًا. وفي قوله تعالى: {فعاقبتم} ثلاثة تأويلات:
أحدها: معناه غنمتم لأخذه من معاقبة الغزو، قاله مجاهد والضحاك.
الثاني: معناه فأصبتم من عاقبة من قتل أو سبي، قاله سفيان.
الثالث: عاقبتم المرتدة بالقتل فلزوجها مهرها من غنائم المسلمين، قاله ابن بحر.
وهذا منسوخ لنسخ الشرط الذي شرطه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالحديبية، وقال عطاء بل حكمها ثابت.
{يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئًا} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام الفتح وبايعه الرجال جاءت النساء بعدهم للبيعة فبايعهن.
واختلف في بيعته لهن على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه جلس على الصفا ومعه عمر أسفل منه فأمره أن يبايع النساء، قاله مقاتل.
الثاني: أنه أمر أميمة أخت خديجة خالة فاطمة بنت رسول الله بعد أن بايعته، أن تبايع النساء عنه، قاله محمد بن المنكدر عن أميمة.
الثالث: أنه بايعهن بنفسه وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه، قاله عامر الشعبي.
وقيل بل وضع قعبًا فيه ماء وغمس فيه يده وأمرهن فغمسن أيديهن، فكانت هذه بيعة النساء.
فإن قيل فما معنى بيعتهن ولسن من أهل الجهاد فتؤخذ عليهن البيعة كالرجال؟
قيل: كانت بيعته لهن تعريفًا لهن بما عليهن من حقوق الله تعالى وحقوق أزواجهن لأنهن دخلن في الشرع ولم يعرفن حكمه فبينه لهن، وكان أول ما أخذه عليهن أن لا يشركن بالله شيئًا توحيدًا له ومنعًا لعبادة غيره.
{ولا يسرقن} فروى أن هند بنت عتبة كانت متنكرة عند أخذ البيعة على النساء خيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صنعته بحمزة وأكلها كبده، فقالت حين سمعته في أخذ البيعة عليهن يقول: {لا يسرقن} والله إني لا أصيب من أبي سفيان إلا قوتنا ما أدري أيحل لي أم لا، فقال أبو سفيان: ما أصبت مما مضى أو قد بقي فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال: «أنت هند»؟ فقالت عفا اللَّه عما سلف.
ثم قال: {ولا يزنين} فقالت هند يا رسول الله أو تزني الحرة؟
ثم قال: {ولا يقتلن أولادهن} لأن العرب كانت تئد البنات، فقالت هند: أنت قتلتهم يوم بدر، وأنت وهم أبصر.
وروى مقاتل أنها قالت: ربيناهم صغارًا وقتلتوهم كبارًا فأنتم وهم أعلم، فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى.
{ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه السحر، قاله ابن بحر.
الثاني: المشي بالنميمة والسعي في الفساد.
والثالث: وهو قول الجمهور ألا يلحقن بأزواجهن غير أولادهن لأن الزوجة كانت تلتقط ولدًا وتلحقه بزوجها ولدًا، ومعنى {يفترينه بين أيديهن} ما أخذته لقيطًا، {وأرجلهن} ما ولدته من زنى، وروي أن هندًا لما سمعت ذلك قالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمر إلا بالأرشد ومكارم الأخلاق.
ثم قال: {ولا يعصينك في معروف} فيه أربعة أوجه:
أحدها: أن المعروف ها هنا الطاعة لله ولرسوله، قاله ميمون بن مهران.
الثاني: ما رواه شهر بن حوشب عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعصينك في معروف قال: هو النوح.
الثالث: أن من المعروف ألا تخمش وجهها ولا تنشر شعرها ولا تشق جيبًا ولا تدعو ويلًا، قاله أسيد بن أبي أسيد.
الرابع: أنه عام في كل معروف أمر الله ورسوله به، قاله الكلبي.
فروي أن هندًا قالت عند ذلك: ما جلسنا في مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعطيك من شيء وهذا دليل على أن طاعة الولاة إنما تلزم في المعروف المباح دون المنكر المحظور.
{يأيها الذين ءامنوا لا تتولوا قومًا غضب الله عليهم} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنهم اليهود، قاله مقاتل.
الثاني: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن مسعود.
الثالث: جميع الكفار، قاله مجاهد.
{قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور} فيه أربعة أوجه:
أحدها: يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفار مِنْ بعث مَنْ في القبور، قاله ابن عباس.
الثاني: قد يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس أصحاب القبور بعد المعاينة من ثواب الآخرة لأنهم تيقنوا العذاب، قاله مجاهد.
الثالث: قد يئسوا من البعث والرجعة كما يئس منها من مات منهم وقبر.
الرابع: يئسوا أن يكون لهم في الآخرة خير كما يئسوا أن ينالهم من أصحاب القبور خير. اهـ.